Wednesday, 3 August 2016

آدم هذا كان ميِّتَا فعاش، وكان ضالًّا فَوجِد .. تأملات سريعة في مثل الابن الضال



مُقدِّمة:


حقًّا يَعكسُ مَثَلُ الابنِ الضالِّ قصَّةَ البشريَّة مع اللهِ، والمثلُ هو تكملةٌ رائعة لقصَّةِ آدم وحوَّاء الغير مُنْتَهِية. لقد توقَّفت قصَّة آدم وحوَّاء عند السقوط، وبقى الإنسان في حيرةٍٍ مِنْ أمره، الذي تسبَّب هو نفسه في حدوثه. فجاءَ مثلُ الابنِ الضالِّ شارحًا بقوَّةٍ ووضوحٍ العلاقة الإلهيَّة-الإنسانيَّة على مدى التاريخ البشريّ.

وسنعقِد مُقارنة مُختَصرة بين القصَّتينِ مع بعض التأمُّلات في الأحداث (وحاول عزيزي القارئ أنْ تربط بين الآيات التي لها نفس اللون).. 


تمرُّد الإنسان على الله:

«كان لرجل ابنان. فقال أصغرهما لأبيه: يا أبت أعطني النصيب الذي يعود علي من المال. فقسَّم ماله بينهما. وبعد بضعة أيام جمع الابن الأصغر كل شيء له، وسافر إلى بلد بعيد، فبدَّد ماله هناك في عيشة إسراف» (لوقا ١٥: ١١- ١٣). 
«وكانت الحية أحيل جميع حيوانات الحقول التي صنعها الرب الإله. فقالت للمرأة: «أيقينًا قال الله: لا تأكلا من جميع أشجار الجنَّة؟» فقالت المرأة للحيَّة: «من ثمر أشجار الجنَّة نأكل، وأمَّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنَّة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه كيلا تموتا». فقالت الحيَّة للمرأة: «موتا لا تموتان، فالله عالم أنكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة تعرفان الخير والشر». ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للأكل ومتعة للعيون وأن الشجرة منية للتعقلفأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت أيضًا زوجها الذي معها فأكل» (تكوين ٣: ١- ٦). «فأخرجه الربُّ الإله مِن جنَّةِ عدن» (تكوين ٣: ٢٣).

لقد اختار الإنسانُ لنفسه الموتَ دون الحياة، ففصل المخلوق مِنَ العدم (أي الإنسان) نفسه عن مصدر وجوده، فكان موته حتميًّا. السمكة التي تخرج مِنَ الماءِ تموت، لأنَّه في الماءِ يُوجَد ما تستمدُّ منه حياتها، تمامًا كما المريض الـمُحتاج للأكسجين (Oxygen) إذا فَصَلَ عن نفسه المصدر فإنَّه يموتُ في الحال. 
فالله لم يُهلِك الإنسان ولا أماته، لا فهو كلِّيّ الصلاح، بل الإنسان هو مَنْ أتى بالفساد على طبيعته، وأدخلَ عُنصرَ الخطيَّة إلى طبيعته النقيَّة فتلوثت، وظلَّت تتآكل بالخطيَّة وتُفسَد بالشرِّ حتى أصبحت متهالكة وعُرضة للموت.  
لم يُذكَر في مثل الابن الضال أنَّ الأب طرد الابن مِنَ البيت، ولكن ما حدث كان أنَّ الابن نفسه هو مَنْ ترك المنزل وسافر بعيدًا بكامل إرادته الحرَّة، أمَّا في سفر التكوين فيذكر الكاتب أنَّ الله «أخرجه من جنَّةِ عدن». هذا لا يَعني إطلاقًا أنَّ الله قد عاقب الإنسان بالطرد عقابًا انتقاميًّا، ولكنَّه نَفَّذ حُكمَ الطردِ على الإنسان، الذي أعلنه الإنسان فعليًا حينما أراد أنْ يتألَّه بالمعرفة بعيدًا عن الله ورفض التّدرُّج في الكمال حتى يَصلَ للألوهة الحقَّة النقيَّة. 
لِقَد أراد الابن نصيبه في الميراث فقسَّمه أبوه وأعطاه إياه وتركه يُسافر بعيدًا بمحض إرادته الخاصَّة، وأراد الإنسان في آدم التألُّه بمجهوده الخاصِّ بعيدًا عن الله وبدونه، فأخرجه الربُّ الإله مِنْ جنَّة عدن (كلمة "عدن" تعني النعيم) تاركًا إياه يخضع لهواه ولاختياره الشخصيّ، مُحتَرِمًا الحريَّة التي خلقه عليها. 


محاولة فاشلة للرجوع -بالقوَّة الذَّاتيَّة- إلى الحالةِ الأولى:


«فلما أنفق كل شيء، أصابت ذلك البلد مجاعة شديدة، فأخذ يشكو العوزثم ذهب فالتحق برجل من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى الخنازير» (لوقا ١٥: ١٤، ١٥). 
«فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانانفخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر» (تكوين ٣: ٧). 

مُسكينٌ هو الإنسان!! يَظنُّ أنَّ ببعض أوراق التِّينِ يُمكِن أنْ يَستُرَ نفسه ويداري عُريه، أو أنَّه بوظيفة كرعاية الخنازير يُمكِن أن يُعوِّض أكوام المال التي نالها من أبوه وأنفقها على ملذَّاته!!  
لو كان العُري المقصود في القصَّة هو عري الجسد، لكان ورق التِّين جديرًا بالثقة في ستر الجسد، ولكن الأمر ليس كذلك، بل إنَّه عُري الإنسان -المخلوق مِنَ العدم- مِنْ نعمةِ الله وَمِنْ مجده، هذا هو العُري الحقيقيّ الذي لا يُمكِن أنْ يُستَر بأيّ شيء آخر مهما كان. 
آهٍ مِنْ شدِّة غباء الإنسان! لقد ظنَّ هذا الشقيّ أنَّ أوراق التين يُمكِنها أنْ تستبدل عمل النعمة الإلهيَّة في ستر الجسد مِنْ ضرباتِ الشرِّ ومن لدغاتِ الحيَّةِ. 
آهٍ لِقَد هَبَطَ الإنسان إلى أدنى حالات الوسخ والقذارة بمعاشرته للخنازير، تَلَطَّخ وتَوَسَّخ وبدأت صورة أبيه الجميلة -التي فيه- في التشوُّه مِنْ كثرة قاذورات الخنازير، وصار وجهه مُعتمًا بعد أنْ كان مُستنيرًا بفضل خير أبيه، وصارت رائحته كريهة بعد أنْ كان يتطيَّب بعطور وروائح أبيه العطرة الفائقة الجمال، وصارت ملامح وجهه عابسة بعد أنْ كانت تَشعُّ بالفرح والابتهاج في بيت أبيه. 
آه أيها الإنسان الشقيّ! تركت النعيم الأبدي من أجل ملاذ وحريَّة وهميَّة ووقتيَّة أخضعتك تحت نير الخنازير. الويل لك أيها الشقيّ البائس.  

هكذا أحبَّ الله آدم (العالم):


وظلَّت البشريَّة تائهة، شاردة، مُتخبِّطة، فاقدة الأمل وعلى رجاءٍ وأمل في نفس الوقت، تضع قدميها على طريق الرجوع تارةً، وتارةٌ أخرى تَنْزَلِقُ بعيدً عن الطَّريقِ في الإتجاة الـمُعاكِس تمامًا. وعندما قّرَّرَ الإنسانُ العودة، عاد ولكن على أملِ أنْ يكونَ مُجرَّد عبدًا في بيتِ أبيه كأقصى طموحٍ ورضا. وأخضع نفسه تحت نيرٍ ثقيل (هو الناموس) وظلَّ يَتَحَامَل على نفسه شيئًا فشيئًا لأنَّه يُؤمِنُ تمام الإيمانِ بأنَّه لَنْ يرتفع فوقَ قامةِ العبدِ، وكعبدٍ لابدَّ وأن يُقيَّد بقيودٍ ثقيلةٍ، تُحِدُّ صعودَه نحو تألُّهِهِ. 
كان هذا هو فكره، لأنَّ رؤيته لأبيه كانت رؤيةٌ مُشوَّهة وغير ناضجة، رؤيةٌ ترى في الأب غليلًا وانتقامًا يَنْتَظِرُ مَنْ يُخطئ حتَّى يَصبُّ عليه جاماتَ غضبه ويُلحِق به أشدَّ العقاب لأنَّه تَعدَّى وصيَّته! نعم، لقد كانت هذه هي نظرة العهد القديم نحو الله. فهل كانت هذه الرؤية واضحة وكاملة؟

«أقوم وأمضي إلى أبي فأقول له: يا أبت إني خطئت إلى السماءِ وإليك. ولست أهلًا بعد ذلك لأن أدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحد أجرائك» (لوقا ١٥: ١٨، ١٩).  


عندما رآه أبوه قادمًا مكسورًا ومُحطَّمًا وبائسًا، لا يرى في نفسه سوى مجرَّد عبدٍ، يُحاول التَمرُّن على الكلمات التي رتَّبها ليُرضي بها -حسب ظنُّه- كرامة أبيه المجروحة وغروره، ويُقوِّي نفسيَّته على تَحمُّل نظرات الشماتة والإستهزاء مِنْ أبيه، وبالتبعيَّة مِنْ جميع مَنْ في البيتِ. ولكن على غير الـمُتوقَّع تمامًا، لم يَتَحمَّل هذا الأب الصالح أنْ يَترك هذا الابنُ العائدُ يَصِلَ إلى البيت بهذه الحالة، بل في ردِّ فعلٍ عجيب ومُدهِش، بادَر هو وجرى نحوه إلى نحو منتصف الطريق ليأخذ بيده ويرفع مِنْ معنويَّاته ويؤكِّد له بقوَّةٍ أنَّه لايزال المحبوب الأوَّل، وأنَّه سيدخل البيت كابنٍ وارثٍ لا كمجرَّد عبدٍ.  



«وكان لم يزل بعيدًا إذ رآه أبوه، فتحركت أحشاؤه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبله طويلاً… وقال الأب لخدمه: أسرعوا فأتوا بأفخر حلة وألبسوه، واجعلوا في إصبعه خاتمًا وفي قدميه حذاءً» (لوقا ١٥: ٢٠، ٢٢). 


هنا نرى تجسُّد الكلمة وتجلَّي الثالوث في حياة البشريَّة بمنتهى الوضوح. فالآب عندما رأى البشريَّة تئنُّ، أسرع وألقى بنوره الذاتي وكلمته (اللوجوس) وقبَّل البشريَّة بقبلاتِ الرحمة والحبِّ والقبول. 
نزول الأب العطوف مِنْ بيته هو تجسُّد الكلمة عينه. 
حضن الأب لابنه، هو رمز لاتحاد اللاهوت بالناسوت، الله بالبشريَّة الضائعة الهاوية. لَمْ ينتظر الله مِنَ البشريَّة أنْ تأتي إليه، ولكن أسرع هو نحوها بشغفٍ ومشاعر أبويَّة تُثير الدهشة، بل وألبسها أفخر حُلَّة، والتي بلا شكٍّ ترمز للروح القدس الحامل الحياة الإلهيَّة، الذي ألبسه الكلمة بتجسُّده للبشريَّة، والذي به هو نفسه نَلْبِس الربَّ يسوع، فنخلع عنَّا الموت ونلبس عدم الفساد (كورثنوس الأولى ١٥: ٥٤). 
والخاتم هو العلامة الملوكيَّة الـمُميِّزة للابن كوراث وكعضو في المنزل، وهو رمز لدم المسيح المطبوع على جباهنا، علامة الخلاص والنُصرة على الموت الذي سحقنا قبلًا 
خروج الأب مِنَ البيت ليس هو تجسُّد الكلمة وحسب، بل هو أيضًا السير مع البشريَّة في طريق العودة إلى المنزل بالكرامة التي ترك بها المنزل أوَّلًا، بل وأعلى منها. هذا الذي كان مِنَ المستحيلِ إتمامه لولا خروج الأب ودخوله حاضنًا ابنه المحبوب. 
خروجه ورجوعه بابنه، هو موته حاملًا البشريَّة في شخصه، وقيامته بكل البشريَّة الـمُنجمعِة فيه، وصعوده أيضًا بالبشريَّة المتَّحدة به بلا افتراق إلى المنزل (أي الملكوت) للتمتُّع الأبدي، والذي من غير الـمُمكِن أنْ يفترِق إلى الأبد. 
حقًّا سيفرح بنا الله أمام ملائكته قائلًا: 

«البشريَّة هذه كانت ميِّتة فأحيِّيتُها، وكانت ضالَّة فَوجدتُّها»

  

بنعمة الله،