Wednesday 21 September 2016

الاتَّحَادُ الزِّيجِيُّ الَّذِي سَبَقَ الْولَادَةَ مِنَ الرُّوحِ




في ملءِ الزمان، دَخَلَ اللاهوت إلى مخدع الزيجة التي سَتُغيِّر مسارَ التاريخ بأكمله، وسَتَعْتِق الإنسانَ مِن الإنزلاقِ نحو العدم الذي جاء منه وعَادَ إليه.  
دَخَلَ اللاهوت إلى مَعْمَلِ الاتحاد، حيث هيَّأَ الروح القدس المكان ونقَّاه استعدادًا لهذه اللحظة الـمُنتظرَة 
دَخَلَ اللاهوت فوجَدَ خليَّة (Cell) الناسوت -عروسه- في انتظاره على أحرِّ من الجمرِ. 
دَخَلَ اللاهوت واحتضن عروسه وحبيبته، وقَبَّلها بقبلاتِ الرحمة والحنان والقبول، ثمَّ اتَّحد بعروسِه -كمثال اتحاد الرجل بالمرأةِ عاطفيًّا وذهنيًّا وجنسيًّا في عالمنا، وأودَع -اللاهوت- المعرفة الإلهيَّة في رحم الناسوت، حيث تمَّ الإخصابِ (Fertilization) بين المعرفة الإلهيَّة -الـمُودَعَة من لاهوت الكلمة- وبويضات الجهاد الإنسانيّ، تلك التي كانت تُنْـتَج مِنْ حينٍ للآخر بواسطة جهاز الإنسانيَّة التناسليّ -أي العقل البشريّ- على أملِ الإخصاب ونمو جنينًا إلهيًّا، يُمثِّل الإنسانيَّة الجديدة. ولكن، فقد كانت هذه البويضات تُقابِل في النهاية مصيرها وهو الموت، وتُطرَح خارج الجسدِ بنزيفٍ مُؤلمٍ، كمثال دورة المرأة الشهريَّة (Menstrual Cycle) في عالمنا.

حقًّا كان الناسوت الـمُتهالِك -بسبب الخطيَّة وفسادها- يَنْتَظِرُ تلك اللحظةِ التي يَــتَّحِدُ فيها بخالقه اتحادًا أبديًّا لا يَقْبَل الانفصال أو الافتراق، فيُغرِّدُ مرَّة أخرى في سماءِ الحياةِ الإلهيَّةِ في الفردوسِ بعدما سَقَطَ تحت سلطانِ المادة، وصار عاملي المكان والزمان هما أشدّ أعداءه وأكبر مصادر لخوفه ورعبه وارتباكه، ففي عالمه كلاهما مرتبط بالموتِ ارتباطًا وثيقًا.  
لقد كانت البشريَّةُ غارِقَةٌ في طوفان فسادِها وتحتَرِق من نارِ وكبريتِ خطاياها. فقد حلَّت السرقةُ محلَّ العطاءِ، وحلَّ الزنى محلَّ الحبِّ، وحلَّ الظلمُ محلَّ العدلِ، وحلَّ القتلُ محلَّ الشفاءِ. 
لقد حلَّ الشرُّ محلَّ الله في قلبِ الإنسانِ، ولذلك حلَّ الموتُ محلَّ الحياةِ.  
ولهذا، فقد فَشِلَت المعرفة الـمُجرَّدة في إخصابِ البويضات، كما فَشِلَت القوَّة، وفَشِلَ التَسلُّط، وفَشِلَ كلُّ ما ظنَّ به الإنسان أنَّه سَيَصير إلهًا خالدًا، مُتَساميًا فوق الموتِ والفسادِ. 
لقد كانت كلّ محاولات الإنسان لخلق آلهةٍ له ما هي إلَّا محاولة لإخصابِ بويضات جهاده لولادة الإنسان الجديد، كاهن الخليقة والشبيه للطبيعة الإلهيَّة، أو بمعنى آخر، كمحاولة لاغتصابِ الألوهةِ. ولكن، لقد كانت تلك الآلهة مُصَابة بالعقمِ، ولم تُحرِّر الإنسان، بل أوقعته بأكثرِ قسوةٍ وإحباط داخل حيِّز العبوديَّة. 

ظنَّ البشرُ بأنَّ السقوطَ الشنيعَ مِنْ جنَّةِ عَدْن كان بمثابةِ نهايةِ قصَّتهم المأسويَّة، وأنَّ به تلاشت فرصتهم الوحيدة للظفرِ بالخلود الكامن في عمقِ الألوهةِ. وصار أقسى طموحهم هو أنَّ يَبُلَّ أحدٌ طرفَ إصبعه ليُبرِّد النارَ الـمُشْتَعِلَةَ في حلقِهم، هذا الذي صارَ جافًا مِنْ شدِّةِ اللهيبِ وكثرةِ الصرير. ولكن حتَّى تلك الـمُنْيَة قُوبِلَت بالإجهاضِ لأنَّهم ظَنُّوا أنَّ الهوَّة العظيمة الكامنة بينهم وبين خلود اللاهوت ونعيمه لا يستطيع أنْ يَعبُرها أحدٌ قط (إنجيل لوقا ١٦: ٢٤، ٢٦). وما هي تِلك الهوَّة العظيمة سوى إتمام موت العتيق، وإحياء الجديد في الإنسان. أي أنَّ هذه الهوَّة كانت تجديد الخليقة بأكملها، وهو ما يُعَدُّ خارِج إمكانيَّات البشر أجمعين، فليس واحدٌ منهم لديه القوَّة والقدرة ليَخْلِق ويُجدِّد. لذلك، فقد تَعَطَّف الحَمَلُ الـمَذْبوح-الأسدُ الغالب الخارج مِن سبطِ يهوذا (رؤيا ٥: ٥، ٦)، وعَبَرَ الهوَّةَ، آتيًا إلينا في جحيمِنا، ليتَّحدَ بناسوته. ليس فقط ليُبطِل الموتَ الـمُتَسَلِّطَ علينا، بل بالحريّ ليُعطينا حياته، في ذاته. 


وبعدما تمَّ الإخصاب بين ما هو إلهيّ وما هو بشريّ، تكوَّن ونَـمَا في المخدع رأس الإنسانيَّة الجديدة، بكرُ خليقتنا الجديدة، والأخُ الأكبر لنا وقائدنا، ابن الله وابن الإنسان، نِتَاجُ اتحاد الحبّ والصلاح الإلهيّ بالعالم المخلوق والمادة المائتة: يسوع المسيح، وصار بجسده وارثًا ما هو للاهوته فصار ناسوتًا جديدًا، مُمَجَّدًا ومُؤلَّهًا، على صورةِ الله ومثاله بشكلٍ واضح.

إنَّ هذه العمليَّة ليست عمليَّة تاريخيَّة وحسب، تمَّت وانتهت في لحظةٍ ما، بل هي تعلو فوق الزمانِ ولازالت في حدوثٍ مستمرٍّ غير مُنقطِعٍ. 
فَمِثلما حَدَثَ مع الإنسان يسوع المسيح في مخدع العذراء من اتحاد اللاهوت بالناسوت، يحدث معنا ولنا في مياه المعموديَّة (بالنعمةِ وعلى قدرِ استطاعتنا)، فيُهيِّئ الروح القدس المخدع في رحم الكنيسة ويُقدِّس الماء، حيث يحلّ اللاهوت ويَتَّحدُ ببويضات الكنيسة، ويأتي منها بأولادًا له على صورة الله، مُمَجَّدين ومعتوقين من الأسرِ للزمانِ والمكانِ. 
فبعد أنْ كان كلٌّ مِنَّا يَصْرُخ: «ملعون اليوم الذي وُلِدت فيه، اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركًا» (أرميا ٢٠: ١٤)، ونئنُّ قائلين: «إنِّي في الإثمِ ولِدت وفي الخطيئة حبلت بي أمي» (مزمور ٥١: ٥)، صرنا نُولَد بشرًا سمائيِّين من اللاهوت بالروح القدس (إنجيل يوحنَّا ٣: ٥، ٦؛ رسالة يوحنَّا الأولى ٣: ٩)، وحُبِلَ بنا بالنعمة والحقِّ (إنجيل يوحنَّا ١: ١٢- ١٧) بقيامة الربّ من بين الأموات، لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنَّس ولا يضحمل (رسالة بطرس الأولى ١: ٣، ٤). 
  
ينبغي أيضًا أن نُدرِك أنَّ الولادة من الماءِ والروح ليست فقط مُقْتَصِرَة على الإتحاد الزيجي الذي تمَّ بين اللاهوت والناسوت في عمليَّة التجسُّد، بل أيضًا تَشْمَل الشركة في موتِ الربِّ وقيامته والاستعداد للصعودِ فيه ومعه وبه إلى الآب. هذا يبدأ في مياهِ الأردن، ويَتَـثَـبَّت بالميرون الـمُقدَّس، ويتأصَّل ويتمُّ بالشركة في جسدِ الربِّ ودمِه. 
بالتناولِ من جسده نصير أعضاء جسده، من لحمه ومن عظامه، ولأنَّنا صرنا أعضاء جسده الـمُقدَّس، يَجِب أن يسري دمه فينا، ليُغذَّي كلَّ عضوٍ فينا بما يحتاج من غذاءٍ وتقويةٍ، وليخلَع عنَّا المواد السامة ومخلَّفاتِ الخطيَّة الفاسدة.
  
علينا أنْ نَفْهَم ونُدرِك هذا السرّ  ليس كما لو كان رمزيًّا أو خياليًّا، بل على أنَّه واقع حيّ وحقيقيّ (وغير حرفيّ بالطبع في ذات الوقت)، أي نفهمه سرائريًّا. نعم نحن نشترِك في حياة الربِّ يسوع بكلِّ ما تمَّ فيها، ونَتَخطَّى حدودَ المكانِ وحاجز الزمان لِنَكُونَ فيه ونُشارِكه كما شَارَكنا.
  
فإنْ كان كلّ من فِعل التجسُّد والفداء والقيامة هو مُجرَّد حدثًا تاريخيًّا تمَّ في مرحلةٍ زمنيَّة مُعيَّنة في شخصٍ واحدٍ فقط وانتهى، لكان بِلَا فائدة ولا انتفعنا مِنْهُ شيئًا، ولا نُلنا الخلاص الـمُعَدُّ قبل تأسيس العالم!!  
بينما، في الواقع الروحيّ والبُعد السرائريّ، نَرَى كلَّ فعلٍ في ذاته على أنَّه حركة دينمايكيَّة (Dynamic) مجانيَّة يَمتدُّ مفعولها فوق الزمن ويَصِلُ لكلٍّ منَّا بواسطة اتحادنا بالمسيح وشركتنا فيه، إذ قد جَمَّعنا جميعًا فيه وبذر نفسه في كلِّ واحدٍ منَّا بطريقةٍ سرائريَّة -أي بواسطةِ تناول جسده المقدَّس ودمه الكريم، فصرنا مِنْ نفس الجسد والدم وتَثبَّتنا كأغصانٍ في الكرمةِ الحقيقيَّة، وصرنا أيضًا من نفس طبيعتها المجيدة الغير قابلة للفساد.  

إنَّ التاريخ والزمن لا تأثير لهم إطلاقًا في شفاءِ كيان الإنسان الفاسد، بينما قُبول تبني الآب وشركة لاهوتيَّة الكلمة واقتناء نار الروح القدس يَنقِل الإنسان مِنْ الترابِ إلى السماءِ مُرتَديًا ثوبًا جديدًا ناصعًا، هو ثوب اللاهوت.  
هكذا، بشركتنا في طبع الكلمة الـمُتَجَسِّد كابنٍ وإله، نَخلَعُ عنَّا العتيق ونصير مُشارِكين في الحياةِ (الثالوثيَّة) الإلهيَّة.

لقد اخْتَرَقَ غير الـمَخلوق (الكلمة) الـمَخلوق (الزمان والمكان) ليَقضي على العدمِ (الموت) وبذلك هَدَمَ كلَّ أبعادِ الخوفِ التي تُهدِّدُ حياةَ الإنسانِ، وثَـبَّتَ فيه عَدم الفسادِ (الحياة الإلهيَّة التي لا تَفنى)، فَنُلنا - فيهِ وَمِنْهُُ وَبَهِ وَلَهُ- كيانًا وَوجُودًا غَيْرَ زَمَنِيٍّ، غَيْرَ مَوضِعِي وَغَيْرَ مَائِتٍ.  
فَلْنَشْتَرِكُ إذن في فِعْلِ التَجسُّدِ وفِعْلِ الفداء وفِعْلِ القيامة عن طريق الاشتراك السرِّي والـمُقدَّس في الإفخارستيا الـمُحييَّة، ولنحاول -على مدى حدود اتساع إدراكنا وعلى قدر عقلنا المحدود- أنْ نُدرِك نقطة التقاء الفعل الذي تمَّ في الماضي (تاريخيًّا) بالفعلِ الذي يتمُّ في الحاضرِ (سرائريًّا)، بل بالحري الفعل الذي يَقِف أمامه الزمن (المخلوق) مُتَحيِّرًا كيف يُؤَرِخُ بِدء زمانه ويَحُدَّ زمان انتهاءه.  




No comments:

Post a Comment