«الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ»[١]لا شكّ أنَّ مشيئة الله، وبالتالي مشيئة كلِّ أبناءه، هي خلاص العالم كلّه. لكن علينا هنا أنْ نسأل:ما هو الخلاص؟إنْ حاولنا إجابة هذا السؤال، فإنَّنا نسقط ونبتعد عن الحقيقة. لأنَّ السؤال الحقيقيّ هو:مَنْ هو الخلاص؟الخلاص هو هذا الذي قال عنه القدِّيس بطرس: «لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ»[٢].هو هذا الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا»[٣].إذًا، فالخلاص في الكنيسة الأرثوذكسيَّة ليسَ مفهومًا (concept) أو تصوُّرًا أو فكرةً. الخلاص هو علاقة ديناميَّة حيَّة. وقد علَّمنا الربُّ أنَّ: «هذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ»[٤].وفي ضوء هذه العبارة فقط يُمكننا أنْ نفهم لماذا قال القدِّيس بطرس أنَّ ليسَ بأحد غير المسيح خلاصًا، لأنَّ معرفة الآب مستحيلة بدون الابن: «لاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ»[٥]. فالحياة الأبديَّة هنا ليستْ حدثًا مستقبليًّا، بل حقيقةً حاضرة في كلِّ حينٍ، لأنَّ معرفة الآب متاحة طالما كان الابن متاحًا للبشر، والابن «كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ»[٦].هكذا نفهم أنَّ الخلاص هو معرفة الآب، ومعرفة الآب لا تتمّ بدون الابن، والابن دائمًا وأبدًا كان في العالم. والسؤال هنا، هل الابن كان بالفعل موجودًا في العالم في كلِّ حين، حتَّى قبل أنْ يتجسَّد؟ ماذا عن العهدين القديم والجديد إذًا؟بخصوص العهدين، فإنَ الفكر السائد بقوَّة في الذهن الغير مهذب كنسيًّا، هو أنَّ العهد القديم والعهد الجديد هما ثمة فترتين زمنيتين، الأولى قبل ميلاد المسيح والثانية بدأت بميلاده. هذا الفكر قد يبدو صحيحًا على المستوى التأريخيّ، ولكنَّه بعيد كل البعد عن التصوّر الكنسي المُسلَّم لنا في السرائر الكنسيَّة. فوإن كان العهدان لا يتمَّان خارج التاريخ ولا بمعزل عن الزمن، إلا أنَّهما ليسا حبيسي فتراتٍ معيَّنة، لأنَّ التاريخَ يصرخُ شاهدًا، والزمن يتحرَّك نحو غايته. التاريخ ليسَ هو الحقيقة، بل هو وعاء مِنْ ضمن أوعيةٍ كثيرة تحمل الحقيقة، كالأمثال والأساطير والفنون والمفاهيم. تختلف الأوعية والحقيقة واحدة. هكذا علَّمنا أباء الكنيسة، أنْ ننطلق بدءًا مِنْ الحقيقة لا مِنَ الوعاء الذي يحملها.الكنيسة تُعلِّمنا أنَّه إمَّا أنْ تكون مائتًا "في" آدم القديم المحدود، أو أن تكونَ "مع" آدم القديم في آدم الجديد الغير محدود، أي أنْ توجد كخليقة جديدة كقول القديس بولس[٧]، بغضِّ النظر عن الفترةِ الزمنيةِ التي وُلِدت فيها. فحين نبدأ مِنْ حقيقة العهدين لا مِنْ فتراتهم الزمنيَّة، نفهمُ أنَّ المسيحَ حاضرٌ في العالم منذ أول لحظة وقد رآه الأنبياء قبل تجسده؛ وعندما نقرأ أنَّ موسى «كَتَبَ عَنِّهُ»[٨]، لا نفهم أنَّ موسى النبيّ توقَّع أو خمَّن، ولكن نفهم أنَّهُ رآه وكتب عنه حقيقةً. لم يراه بالعيون الجسديَّة كما رآه الرسل، بل بتلك الرؤية التي تمتدُّ إلى أعماق بصيرة الذهن. يُخبرنا القدِّيس يوستينوس الشهيد عن تقليد الكنيسة الذي استلمه حين يقول:[بذرة اللوجوسَ مَزْرُوعة في كلِّ البشرِ][٩]وهكذا فقد أوضح أباء الكنيسة أنَّ إمكانيَّة الوصول إلى الآب متاحة للكلِّ بواسطة بذرة كلمة الله التي وُضِعَت في داخل الجميع، فيضيف يوستين:[لقد تَعلَّمنا أنَّ المسيحُ هو بِكرُ اللهِ ... والحكمة (اللوجوس Logos) الذي فيهِ يَشْتَرِكُ كلُّ البشرِ. والذين عاشوا بالحكمةِ هم مَسِيحيُّونَ حتَّى ولو اُعْتُبِروا مِنَ المُلحدينَ مِثْل سقراط (Socrates) وهيراقليتُس (Heraclitus) مِنَ اليونانيِّين وغيرهم، ومِنْ غير اليونانيِّين إبراهيم وإيليَّا وحننيا وعزريا وميصائيل وآخرون يصعب علينا حصر أسمائهم وأعمالهم تَفَادِيًا للإطالة.][١٠]وقَد علَّم العلَّامة كليمندس السكندري بهذا أيضًا، شارحًا كيف كانت الفلسفة لليونانيِّينَ بمثابة الناموس الإلهيّ عند اليهود [١١]. ولكن تظلُّ الرؤية غير مكتملة بدون نعمة اللوجوس الحقيقيّ الأصليّ، فيعود يوستينوس ويقول:[بذار الحقِّ تبدو موجودة عند جميع الناس ولكن يتَّضح أنَّهم لَمْ يَفهَموا معناها الحقيقيّ؛ إذ أنَّهم يُناقِضُونَ أنفسَهُم.] [١٢][جميع ما اكتشفه الفلاسفة والمشرعون وعبَّروا عنه تعبيرًا جيِّدًا كان بفضلِ اكتشافهم وتأملُّهم لجزء ما مِنَ اللوجوس. ولكن بما أنَّهم لَمْ يَعْرِفوا اللوجوس، الذي هو المسيح معرفةً كاملةً، فقد كانوا أحيانًا يُناقِضُونَ أنفسهم.][١٣]ومِنْ مدافعٍ بارعٍ هو يوستينوس، لمدافعٍ فذٍّ آخر في الفترة الزمنيَّة ذاتها هو العلَّامة أثيناجوراس، الفيلسوف الأثينيّ العبقريّ الذي صارَ عميدًا لمدرسة الإسكندريَّة في القرن الثاني، نرى أنَّ الشرحَ لَمْ يختلف كثيرًا. يستهل أثيناجوراس رسالته بالتأكيد على أنَّ الله:[يُدْرَكُ فقط بالعقلِ والمنطق λόγῳ...][١٤]ثُمَّ يشرح كيف حاول الشعراء والفلاسفة اليونانيُّونَ، مثل يوربيدوس Euripides وأفلاطون وأرسطو، أنْ يتأمَّلوا ويتوصَّلوا للحقائق الإلهيَّة مِنْ خلالِ قوَّة المنطق التي لديهم، ولكنَّهم كانوا يتخبَّطونَ لأنَّهم اعتمدوا على أفكارِهِم وحدها:[فالشعراء والفلاسفة –وكما في أمورٍ أخرى هكذا فعلوا في هذا أيضًا- أنَّهم قد قاموا بتركيزِ طاقتِهِم في الطريقِ التأمُّليّ والافتراضات النظريَّة عن اللهِ، ولكنَّهم بعد ذلك تحرَّكوا بقوَّةِ المنطقِ التي للنَفَس الإلهيّ –مجتذبًا إيَّاهم- كلُّ واحدٍ فيهم –ومِنْ خلالِ الروح التي فيه- يُصبِح قادرًا على أنْ يَجِدَ الحقَّ ويَفْهَمُهُ. ولكنَّهم لَمْ يكونوا مؤهَّلينَ بشكلٍ كافي لإدراك الحقِّ، لأنَّهم ظنُّوا أنَّهم أكفْاء للمعرفةِ والتعلُّم ليسَ مِنَ اللهِ عن اللهِ بل مِنْ أنفسِهِم عن اللهِ، وبالتالي فقد توصَّل كلٌّ مِنْهم إلى معتقده الخاصِّ فيما يخصُّ اللهَ والمادَّة والظواهرِ والعالَم.][١٥]وهكذا نرى أشخاصًا اجتهدوا للحياة في العهد الجديد بقدر ما استطاعوا على الرغم من أنهم وُلدوا في الفترة الزمنية التي سبقت ميلاد المسيح كما يقول العلَّامة أوريجينوس:[علينا ألَّا نُسْقِط حقيقة أنَّ المسيحَ قد جاء إلى العالم روحيًّا حتَّى قبل أنْ يأتي في الجسد. لقد أتى لهؤلاء الذين كانوا أكثر كمالًا وإلى هؤلاء الذين كانوا أطفالًا تحت مؤدب[١٦] أو أوصياء ووكلاء[١٧]، في هؤلاء الذين كان ملء الزمان[١٨] الروحي حاضرًا، كمثال الأباء البطاركة، وموسى الخادم، والأنبياء الذين تأمَّلوا مجد المسيح.وكما أتى المسيح للكاملين قبل مجيئه الذي كان جسديًّا ومنظورًا، هكذا أيضًا لم يأت إلى هؤلاء الذين لا يزالوا أطفالًا بعد مجيئه الذي اُستعلِن، لأنَّهم لا يزالون تحت «أوصياء ووكلاء» ولَمْ يصلوا إلى ملء الزمان بعد. إلَّا أنَّ الذين يتقدَّمونَ المسيح قد أتوا لهم... أمَّا الابن نفسه، هذا الذي قد مجَّد نفسه كالكلمة الذي هو الله، فلم يأت لهم، لأنَّهُ ينتظر الاستعدادات التي يجب أنْ تتمَّ في رجال الله الذين على وشك إدراك ألوهيَّته.] [١٩]إذًا، فملء الزمان ليسَ زمنًا تاريخيًّا، وقبل تجسُّد المسيح رأينا أناسًا كهؤلاء القدّيسين الذين كان إليهم كلمة الله واختبروه قبل تجسُّده وحُرِّروا بقيامته من بين الأموات، في حين أنَّه إلى الآن يوجد من لم يختبر اللوجوس الإلهيّ بعد ولم يتحرَّر بعد بل هو باقٍ في قديمه، في آدم المائت. يشرح أكثر العلَّامة أوريجينوس:[وفقًا لظهور ربِّنا يسوع المسيح كما يُروى تاريخيًّا، فقد كان حلولًا جسديًّا وكان بمثابةِ حدثًا كونيًّا أنارَ العالَم كلَّهُ، حينما صار الكلمةُ جسدًا وحلَّ فينا. «كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ»[٢٠]. غيرَ أنَّهُ مِنَ الضروريّ معرفة أنَّهُ كان حالًّا قبل ذلك في القدِّيسينَ ، إلَّا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ حلولًا جسديًّا. بل وأيضًا بعد هذا الحلول المنظور (أي التجسُّد)، فإنَّهُ لايزال يحلُّ فينا. وإذا كان أحدًا يُريدُ دليلًا على ما قيل، فلينتبه لهذه الفقرة: «اَلْكَلاَمُ الَّذِي صَارَ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ قَائِلاً...» إلى آخرِهِ. فمَنْ هو الكلمة الذي صار مِنْ قِبَل الربِّ إلى إرميا أو إلى أشعياء أو إلى حزقيال أو أحد آخر سوى هذا الذي كان «هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ»[٢١] ؟ أنا لا أعرفُ أي كلمة آخر للربِّ غير هذا الذي تحدَّث عنهُ الإنجيليّ قائلًا: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ»[٢٢] .غير أنَّنا لابدَّ أنْ نرى أنَّ حلولَ الكلمةِ هو في هؤلاء الذينَ يستطيعون الإستفادة منه على نحو إستثنائيّ. لأنَّهُ أيّ فائدة تعود عليَّ إنْ حلَّ الكلمة في العالَمِ ولَمْ أحلمه أنا في داخلي؟ وعلى العكس أيضًا، إنْ لَمْ يَكُنْ قد حلَّ في العالَمِ بعد، ومُنحتُ أنا أنْ أكونَ كمثل الأنبياء، فحينئذٍ أنا أحملُ الكلمة. أستطيعُ القولَ: أنَّ المسيحَ كانَ مع موسى وإرميا وأشعياء وكلِّ مَنْ كان بارًّا، وهذا الذي قاله للرسل: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ»[٢٣] يُدْرَكُ بالحقيقةٍ ويُلاحَظ حتَّى مِنْ قبلِ مجيئهِ. لأنَّهُ كان حقًّا مع موسى ومع أشعياء ومع كلِّ القدِّيسين. فكيف كان لهم أنْ يتكلَّموا بكلمة الله إنْ لَمْ يَكُنْ الكلمةُ قد حلَّ فيهم؟][٢٤]ويقول أيضًا:[«فاسهروا إذا، لأنكم لا تعلمون أي يوم يأتي ربكم» [٢٥]. المسيحيُّون البسطاء قد يعتقدون أنَّهُ يتحدَّث مُشيرًا إلى مجيئِهِ الثاني. ولكن آخرون قد يقولون أنَّهُ يُشيرُ إلى المجيء الروحيّ للكلمة إلى أذهان تلاميذهِ، إذْ لَمْ يَكُنْ قد جاء إلى نفوسِهِم بعد، كما كان سيجيء فيما بعد (روحيًّا)... ولكن في هؤلاء اليقظينَ المستعدِّينَ، يأتي بيوم مجيئه إلى نفوسِ هؤلاء الذينَ استناروا بالنور الحقيقيّ الذي له هو، هو مَنْ يأتي إلى نفوسِهِم.][٢٦]هكذا نفهم أنَّ العهدين ليسا زمنين تاريخيِّين وحسب، بل هما زمنين لدى كلِّ إنسان: عهد ما قبل معرفة هذا الإنسان بالمسيح، وهذا هو العهد القديم، وعهد ما بعد معرفة لاهوت المسيح، وهذا هو الجديد. الإنسان العتيق هو القديم، والإنسان المُمجَّد هو الجديد.العهد القديم هو التخبُّط، الزيغان، الضلال، القبح، الظلم، الانحصار في المخلوقات، الظلمة والموتِ، ولا يزال قائمًا إلى الآن ولم ينتهي بعد؛ أمَّا الجديد فهو عهد الاستعلان، عهد الحرية، عهد المعرفة، عهد الحقِّ، عهد الجمال، عهد المحبة، عهد الانفتاح على من هو غير مخلوق، عهد النور والحياة. هذا هو عهد الخلاص الذي صار والذي لم يتحقَّق كليًّا بعد، فزمان تحقيقه يتزامن مع زمان انقضاء دهر العهد القديم، والقديم سينتهي فقط حين يخضع الكلّ للابن، ويصير الله هو الكلّ في الكلّ[٢٧]. لذلك سأنهي هذا المقال القصير بما يعد مُلخَّصًا لكلِّ ما سبق وختامًا له في نفس الوقت، ألا وهو التعليم الذي سلَّمه لنا القدِّيس العظيم إيرينيوس ومعه العلَّامة العملاق كليمندس السكندريّ:[الربُّ لَمْ يأتِ فقط للذين آمنوا بِهِ في أيَّام طيباريوس قيصر، ولا الآب ظلَّل بعنايتهِ الناس الذين هم أحياء الآن، فقط، بل كلّ الناس الذين مِنَ البدايةِ، حسب طاقتهم، في جيلِهِم، قد خافوا الله وأحبُّوه معًا، وتصرَّفوا بعدل وتقوى مع أقربائهم، واشتهوا جديًّا أنْ يروا المسيح وأنْ يسمعوا صوته.لذلك، ففي مجئيه الثاني، سوف يُوقِظ مِنَ النومِ أوَّلًا، الأشخاص الذين لهم هذا الوصف، وسيقيمهم هم وكلّ الباقيين الذين سيدانون، ويعطيهم مكانًا في ملكوتِهِ... لأنَّهُ كما أنَّهُ سبق الأنبياء بنا في الأوَّل، هكذا مِنَ الجهة الأخرى، هم ممثَّلون فينا نحن، أي في الكنيسة، وينالون المكافأة عن تلك الأمور التي تمَّموها.][٢٨][لأنَّه يوجَد رجاء للذين ماتوا قبل مجيء المسيح أن ينالوا الخلاص وذلك بعد قيامتهم أي في الدينونة. ويَنطبِق ذلك على الذين كانوا يخافون الله وقد ماتوا في البرِّ وكان عندهم روح الله في داخلهم مثل اابطاركة والأنبياء والأبرار.][٢٩]فقط إنْ فهمنا ما سبق، سنفهمى نصِّ رسالة بطرس الرسول الذي يقول فيه أنَّ «الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ (أي الجحيم)، إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ»[٣٠] قاصدًا أنَّ المسيح قد بشَّر في الجحيم لهؤلاء الأشرار الذين هلكوا في الطوفان، وبشارة المسيح لهؤلاء تعني إمكانيَّة خلاصهم، وهو ما يعكس أنَّ بعد الموت "هناك فرصة" بعكس ما هو شائع في أيَّامنا.
يقول القدِّيس إيرينيوس:[الربُّ نزل إلى المناطق التي تحت الأرض، كارزًا بمجيئِهِ هناك أيضًا، ومُعلنًا غفران الخطايا الذي يناله أولئك الذين آمنوا بِهِ. والآن، فكلّ الذين آمنوا بِهِ ولهم رجاء فيه، أي أولئك الذين كرزوا بمجيئِهِ، وخضعوا لتدبيراتِهِ، الأبرار والأنبياء والبطاركة، الذين غفر لهم الخطايا بنفس الطريقة التي بها غفر لنا نحن، تلك الخطايا، التي لا ينبغي أنْ نضعها على عاتقهم، إنْ كنَّا غير محتقرين لنعمة الله. لأنَّهُ كما أنَّ أولئك لَمْ يحسبوا علينا نحن (أي الأمم) تعدِّيَّاتنا التي فعلناها قبل ظهور المسيح بيننا، هكذا أيضًا ليسَ مِنَ الصوابِ أن نُلقي باللوم على الذين أخطأوا قبل مجئ المسيح. لأنَّ «الجميع أعوزهم مجد الله»[٣١]، ولا يتبرَّرون مِنَ أنفسهم، بل بمجئ الربِّ، هؤلاء الذين يوجِّهونَ أنظارهم جدِّيًّا نحو نوره... لأنَّهُ إنْ كانَ هؤلاء الذين في العهد القديم، الذين سبقونا في العطايا التي مُنحِتْ لهم والذين لَمْ يَكُنْ ابن الله قد تألَّم لأجلهم بعد، حينما كانوا يرتكبونَ أي خطيئة أو يتَّبعونَ الشهوات الجسديَّة يصيرون موضع لعنة، فما الذي سيعانيه أُناس اليوم الحاضر الذين احتقروا مجئ الربِّ، وصاروا عبيدًا لشهواتهم؟ وحقًّا إنَّ موتَ الربِّ صا وسيلة الشفاء وغفران الخطايا للسابقين...][٣٢]أمَّا العلَّامة كليمندس، فقد خصَّص فصلًا كاملًا مِنْ كتابه السادس في عمله العظيم "المتفرِّقات Stromata" للحديث عن هذا الموضوع، وهذا هو مُلخَّصًا، غير شامل، لما جاء فيه:
[ولكن كما أتت الكرازة بالإنجيل في الوقت المناسب، هكذا أيضًا أُعطي الناموس والأنبياء للبرابرة في الوقت المناسب، وكذا أُعطيت الفلسفة للإغريق، لتعدَّ أذهانهم للإنجيل... لأنَّ أولئك الذين كانوا أبرارًا وفقًا للناموس، كانوا راغبين في الإيمان... وأولئك الذين كانوا صالحين حسب الفسلفة، كان مِنَ الضروريّ لهم ليس فقط الإيمان بالربِّ، ولكن أيضًا التخلِّي عن عبادة الأصنام، ولذلك تابوا عن سلوكهم السابق عند استعلان الحقِّ... ولهذا السبب، بشَّر الربُّ بالإنجيل لأولئك الذين في الهاوية... ألا تُظهر الأسفار أنَّ الربَّ كرزَ بالإنجيل لأولئك الذين هلكوا في الطوفان أو بالأحرى قُيِّدوا بالسلاسل؟ ... فالرسل، مقتفين آثار الربِّ، بشَّروا بالإنجيل في الهاوية. لأنَّهُ كان المطلوب، في رأيي، أنَّهُ كما هنا كذا أيضًا هناك، يجب أنْ يُحاكي أفضل التلاميذ مُعلِّمهم، لكيما يُحضر الربُّ العبرانيِّين والأمميِّينَ إلى التوبةِ؛ أي لأولئك الذين عاشوا في البرِّ وفقًا للناموس وللفلسفة، الذين أنهوا حياتهم ليسَ في الكمالِ، بل كخطاة. لأنَّهُ مِنَ اللائق للتدبير الإلهيّ، أنَّ أولئك الذين قدرًا أكبر مِنَ البرِّ وكانت حياتهم مبجلَّة وفائقة، هؤلاء عند توبتهم هم المعاصي، على الرغم مِنْ أنَّهم كانوا في موضعٍ آخر، إلَّا أنَّهم قد اُعترف بهم في عداد شعب الله الضابط الكلِّ، يجب أنْ يخلصوا، كلّ واحد بحسب معرفته الشخصيَّة الفرديَّة. وكما أعتقد، أنَّ المخلِّص قد مارس قوَّتهِ أيضًا، لأنَّ هذا هو عمله أنْ يُخلِّصَ؛ الأمر الذي فعله بجذب أولئك الذين كانوا مستعدين للخلاص بواسطة الكرازة بالإنجيل للإيمان بالربِّ، أينما كانوا. إذًا، الربُّ قد نزل إلى الجحيم، لا لغرض آخر سوى أنْ يُكرِزَ بالإنجيلِ. وإنَّهُ إمَّا كرزَ بالإنجيلِ للكلِّ أو للعبرانيِّين فقط. إذا كان للجميع، فإنَّ كلَّ من يؤمن إذن سيخلُص، على الرغم مِنْ أنَّهم قد يكونوا مِنَ الأمم، وذلك عند إقرارهم... اذا كان هو قد كرز لليهود فقط، الذين أرادوا المعرفة والإيمان بالمخلِّص، فمِنَ الواضح أنه حيث أنَّ اللهَ لا يُحابي الوجوهَ، فإنَّ الرسلَ أيضًا، كما هنا، قد كرزوا كذلك هناك بالإنجيل للوثنِّيني الذين كانوا على استعداد للإهتداء... فالبار بكونِهِ بارًّا لا يختلف عن بارٍّ آخر، سواء أكان من أهلِ الناموس أو من اليونانيِّين. لأنَّ الله ليس فقط رب اليهود، بل جميع البشر... وأولئك الذين غادروا قبل مجئ الربَّ إذ لم يكن الانجيل قد كرِز لهم، ولم تتوفر لهم أيَّة أرضيَّة للإيمان أو عدمه للحصول على الخلاص أو العقاب. لأنَّه ليس مِنَ الصحيح أنْ يُدانوا بلا محاكمة، وأنْ يستفيدَ فقط أولئك الذين عاشوا بعد المجئ بالبرِّ الإلهيّ...][٣٣]
بنعمة الله، چورچ نسيم سامي
[1] رسالة مُعلِّمنا بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس ٢: ٤.[2] أعمال الرسل ٤: ١٢.[3] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ١١: ٢٥.[4] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ١٧: ٣.[5] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس متى الرسول ١١: ٢٧.[6] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ١: ١٠.[7] الرسالة الثانية لأهل كورنثوس ٥: ١٧.[8] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ٥: ٤٦.[9] القدِّيس يوستينوس الشهيد، الدفاع الثاني، الفصل ٨. [10] القدِّيس يوستينوس الشَّهيد، الدفاع الأول، فصل ٤٦.[11] راجع على سبيل المثال: رسالة إلى الوثنيِّين، الفصل ٦ و٧؛ المتفرِّقات، الكتاب الثامن، الفصل ١.[12] القدِّيس يوستينوس الشهيد، الدفاع الأوَّل، الفصل ٤٤.[13] القدِّيس يوستينوس، الدفاع الثاني، فصل ١٠.[14] العلَّامة أثيناجوراس، المرافعة عن المسيحيِّين، الفصل الثالث.[15] العلَّامة أثيناجوراس، المرافعة عن المسيحيِّين، الفصل السابع.[16] رسالة مُعلِّمنا بولس الرسول إلى أهلِ غلاطية ٣: ٢٥.[17] رسالة مُعلِّمنا بولس الرسول إلى أهلِ غلاطية ٤: ٢.[18] رسالة مُعلِّمنا بولس الرسول إلى أهلِ غلاطية ٤: ٤.[19] العلِّامة أوريچينوس، الكتاب الأوَّل على بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنَّا، الفقرة ٣٧ و ٣٨.[20] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ١: ٩ و ١٠.[21] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ١: ٢.[22] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس يوحنا اللاهوتيّ ١: ١.[23] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس متى الرسول ٢٨: ٢٠.[24] العلِّامة أوريچينوس، العظة العشرون على سفر إرميا، فقرة ١.[25] بشارة مُعلِّمنا القدِّيس متى الرسول ٢٤: ٤٢.[26] العلِّامة أوريچينوس، التعليق على بشارة مُعلِّمنا القدِّيس متَّى، ٥٩.[27] القدِّيس بولس الرسول، الرسالة الأولى لأهل كورنثوس ١٥: ٢٧- ٢٨.[28] القدِّيس إيرينيوس، ضد الهرطقات، الكتاب الرابع، الفصل الثاني والعشرون، فقرة ١.[29] القدِّيس إيرينيوس، الكرازة الرسوليَّة، فقرة ٥٦.[30] رسالة القديس بطرس الأولى ٣: ١٨- ٢٠.[31] رسالة مُعلِّمنا بولس الرسول إلى أهل رومة ٣: ٢٣.[32] القدِّيس إيرينيوس، ضد الهرطقات، الكتاب الرابع، الفصل السابع والعشرون، فقرة ٢.[33] العلَّامة كليمندس السكندريّ، المتفرِّقات، الكتاب السادس، الفصل السادس، فقرة ١- ٦.
No comments:
Post a Comment