Tuesday 17 October 2017

المجيء الثاني لابن الله- بحسب أوريچينوس





أوريچينوس ... حجر أساس اللاهوت الشرقيّ عامةً، والسكندريّ بالأخصِّ.
كان الشغل الشاغل لهذا اللاهوتيّ العملاق، هو التعمُّق في الكلمة الإلهيَّة قدر المستطاع، وعدم بالاكتفاء بالتوقُّفِ عند الحرف، فالحرف لا يُشبِع جوع مَنْ يُترنمُّونَ مع المرنِّم:
«كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ» ... «تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلهِ الْحَيِّ.» (مزمور ٨٤: ٢؛ مزمور ٤٢: ١، ٢). 


لذلك، يُؤكِّدُ  أوريچينوس أنَّ غايةَ تفسير النصِّ الإنجيليّ هي روحنة حروفه:
[المُهِمَّةُ التي نَحنُ بِصددِها الآن هي أنْ نُتَرْجِمَ الإنجيلَ المُدرَك حسيًّا إلى إنجيلٍ روحيّ. لأنَّه ماذا يكون تفسير الإنجيل المُدرَك بالحواسِّ سوى ترجمته إلى إنجيلٍ روحيّ؟ سيكونُ قليلًا أو لا شيء أبدًا، وإنْ كانَ عامَّةُ الناسِ يؤمنونَ بأنَّهم يَنالونَ ما يَظهرُ مِنْ المعنى الحرفيّ.] (1)

 هكذا، لَخَّصَ أوريچينوس -بنفسه- مسيرةَ حياتِهِ ومغزى كتاباتِهِ العبقريَّة، والتي تستحقُّ مزيدًا مِنَ الاهتمامِ في مجال الدراسات المسيحيَّة، وتلك التي باللغةِ العربيَّةِ على وجه الأخصِّ.

إنَّ ما نسعى لتسليط الضوء عليه هنا هو لمحة بسيطة جدًّا عن الرؤية اللاهوتيَّة العميقة التي لأوريچينوس تجاه مسألة المجيء الثاني للمخلِّص، وكيفَ ربطَ الإسخاتولوجي Eschatology بالحياة الحاضرة في ضوء فهمه العميق والمنفتح جدًّا للأسفار المُقدَّسة في الحياة الكنسيَّة. 


هل يأتي الملكوت في ميعادٍ أو زمنٍ  Timeمُعيَّن كما يأتي المطر مثلًا؟! وهل هو "حدث وقتيّ"؟!

[ربَّما كلّ فضيلةٍ هي ملكوت السموات، وجميعُهم معًا هم ملكوت السموات. وفقًا لهذا فإنَّ كلَّ يحيا حياةً فاضلةً هو حاليًا في ملكوت السموات؛ وتلك الكلمات: «تُوبُوا ، قَدْ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّموات» (بشارة مُعلِّمنا متَّى ٣: ٢؛ ٤: ١٧) لا تُشيرُ إلى زمن أو وقت ولكن إلى الأفعال والميل الداخليّ. لأنَّ المسيحَ، الذي هو كليّ الفضيلة، قد أتمَّ مجيئَهُ وتكلَّم؛ بالتالي، فإنَّ ملكوتَ اللهِ هو داخل تلاميذِهِ ، وليس «هُنَا» أو «هُنَاكَ» (بشارة مُعلِّمنا لوقا ١٧: ٢١).] (2)



المجيءُ الروحيّ للكلمة إلى الذهن اليقظ

[«فاسهروا إذا، لأنكم لا تعلمون أي يوم يأتي ربكم» (بشارة مُعلِّمنا متَّى ٢٤: ٤٢). المسيحيُّون البسطاء قد يعتقدون أنَّهُ يتحدَّث مُشيرًا إلى مجيئِهِ الثاني. ولكن آخرون قد يقولون أنَّهُ يُشيرُ إلى مجيء الكلمة الروحيّ الآتٍ لأذهان تلاميذهِ، إذْ لَمْ يَكُنْ قد جاء إلى نفوسِهِم بعد، كما كان سيجيء فيما بعد... ولكن في هؤلاء اليقظينَ المستعدِّينَ، يأتي بيوم مجيئه إلى نفوسِ هؤلاء الذينَ استناروا بالنور الحقيقيّ الذي له هو، هو مَنْ يأتي إلى نفوسِهِم] (3)



هل مجيء الكلمة هو مجيءٌ مكانيّ أو جغرافيّ؟! كيف سيَفرِزُ المسيح الأبرار والأشرار؟! كيف سينكشف كلُّ شيءٍ في ضوء سطوع النور الحقيقيّ الغير المخلوق الذي لمُخلِّصِنا؟!

[علينا أيضًا أنْ نَضَعَ في الاعتبارِ ما إذا كان مجيء مُخلِّصُنا في المجدِ (بشارة مُعلِّمنا متَّى ٢٥: ٣١- ٣٢) سوفَ يَحْدُثُ مكانيًّا، أمْ أنَّهُ يَجبَ علينا أنْ نبحثَ عن تفسيرٍ آخر. فأين هو هذا المكان الضخم الذي يُمكِنُ أنْ يسعَ الكلَّ في نفس الوقت،كِلا كلُّ الملائكة الآتين مع المسيح وكلُّ الأمم والشعوب المجتمعين هناك؟! ...
أنا أؤمن أنَّ زمان مجيء المسيح سيأتي حينما يكونُ هناك استعلانٌ للمسيح ولألوهيَّتِهِ حتَّى أنَّهُ، ليسَ فقط لَن يستطيع أحدٌ مِنْ ضمنِ كلِّ الأبرار ألَّا يراه، بل وأيضًا ولا واحد مِنْ ضمنِ كلِّ الخطاةِ سيستطيعُ أنْ يفشلَ في معاينةِ المسيح «كَمَا هُوَ» (رسالة مُعلِّمنا يوحنَّا الأولى ٣: ٢)، حينما يُدرِكُ الخطاة خطاياهم في وجهِهِ (أي في وجه المسيح) والأبرار يَرونَ بوضوحٍ ما قادتهم إليه بذارُ صلاحِهِم. هذا هو معنى: «وَيَجْتَمِعُ لَدَيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ» (بشارة مُعلِّمنا متَّى ٢٥: ٣٢). فإنْ كانَ حاليًا، في الوقت الذي لا يُدرِكُ «الْجَمِيعُ» المسيح «كَمَا هُوَ»، وهؤلاء الذينَ يبدو عليهم معرفته لا يعرفونه بانفتاحٍ، ولكن فقط بالإيمان يأتون لدى وجهِهِ حينما يأتونَ لمعرفتِهِ مِنْ خلال الإيمان- كما هو مكتوب: «ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ» (مزمور ١٠٠: ٢)- فكم بالأكثرِ سيكونُ حقيقيًّا أنْ يُقالَ أنَّ كلَّ الأمَمِ سيجتمعونَ ويُفْصَلونَ بواسطتِهِ عندما يكونُ مرئيًّا (ظاهرًا) لهم جميعهم: الأبرار وكذلك الاشرار، مَنْ لهم إيمان وكذلك مَنْ ليسَ لهم إيمان، مُستعلَنٌ بحسب أعين عقولِهِم وليسَ بإيمانِهِم ولا بجهادِهِم في العثور عليه، ولكن ببساطة استعلانه لهم بتجلِّي وسطوع ألوهيَّتِهِ!
إنَّ ابنَ اللهِ لَنْ يَظْهَرَ في أيّ مكانٍ مُعيَّنٍ عندما «يَأْتِي ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ» ... ولكن ... «مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ يَكُونُ كَمَا الْبَرْقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَيَلْمَعُ حَتَّى الْمَغْرِبِ» (بشارة مُعلِّمنا متَّى ٢٤: ٢٧)... وهكذا، فإنَّهُ سيكونُ في كلِّ مكانٍ، وسيكونُ في كلِّ ناحيةٍ في نظرِ الكلِّ، والكلُّ، في كلِّ مكانٍ، سيكونونَ في نظرِهِ... لذلك، فطالما أنَّ الأشرارَ مُشوَّشينَ وُمضطربينَ غير عارفينَ أنفسهم ولا المسيح، غارقينَ في ضبابِ الضلال، وطالما أنَّ الأبرار يرونَ «فِي مِرْآةٍ، كَمَا فِي لُغْزٍ» ويَعرفونَ أنفسَهَم فقط «بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ» (رسالة مُعلِّمنا بولس الرسول الأولى إلى أهلِ كورثنوس ١٣: ١٢) وليسَ وفقًا لما هُم عليه بالحقيقةِ- فالأبرار ليسوا مفروزين عن الأشرار. ولكن حين يكونُ للجميع معرفة ذاتيَّة بواسطة استعلان ابن الله، حينئذ سيفرزُ المُخلِّص الأبرار عن الأشرار.] (4)

----------------------------------------------------------------------------------------------------------

References:
1) Commentary on the Gospel of John, Book I, Paragraph 45
2) Commentary on the Gospel of Matthew, Book XII, Chapter 14
3) Commentariorum Series (ancient Latin translation of the Commentary on Matthew),
Paragraph 59 
4) Commentariorum Series (ancient Latin translation of the Commentary on Matthew),
Paragraph 70