Thursday, 5 April 2018

الصليب: الصورة الأكثر وضوحًا لمجد الله- ‏ بحسب شرح العلَّامة أوريجينوس




قبل أنْ تبدأ عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، أرجو أنْ تقرأوا هذا النصَّ البولسيّ الشهير بتركيزٍ شديدٍ، وبعد أنْ تنتهوا مِنْ قراءة هذه المقالة الصغيرة، أدعوكم أنْ تقرأوه مُجدَّدًا وتشعرون بالفارق الشديد بين المرَّتين.
النصُّ الذي أقصده هو مِنْ رسالة مُعلِّمنا القدِّيس بولس إلى أهل فيلبِّي، حيث يقول الرسول:


‏«فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا:‏ الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. ‏لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ.‏ وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ.‏ لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ ‏فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ ‏رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.»‏ ‏‏‏‏[١]

لقد كان أوريجينوس حقًّا دارسًا وفيًّا للأسفار المقدَّسة، وكان غنيًّا بروح الله الذي يقوده لفهم النصِّ ومِنْ ثَمَّ تفسيره. عندما تعرَّض أوريجين للنصِّ الوارد في حكمة سليمان:
‏«(الْحِكْمَةُ هِي) صُدُورُ مَجْدِ الْقَدِيرِ الْخَالِصُ‏‏» [٢]
شرح كيف أنَّ الحكمة، أي الابن الأزليّ لله الآب، هي صدور مجد القدير، أي الآب، هكذا:
[ما هو مجد القدرة؟ الله الآب هو كلِّي القدرة لأنَّهُ يسودُ على كلِّ الأشياء، أي على السماء والأرض، الشمس والقمر، وكلُّ ما عليهما. وهو يمارسُ السيادةَ عليهم بواسطة كلمته، لأنَّهُ: ‏«لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ‏‏»‏. وإنْ كانتْ كلُّ ركبةٍ ستجثو ليسوع، إذن وبلا شكٍّ، فإنَّ يسوع هو الذي قد أُخْضِعَ له كلَّ شيء، وهو الذي مارس السيادة على كلِّ الأشياء، وبواسطته أُخْضِعَ الكلُّ للآب [٣]. لأنَّهُ بواسطة الحكمة، أي الكلمة والمنطق، وليس عن طريق الإجبار أو الحتميَّة، قد أُخْضِعَ الكلُّ.] [٤]  


ما يُحاول أوريجين هنا توضيحه هو الفارق المهول بينَ مجد الله ومجد الناس. فمجد الله الآب مجدٌ نقيٌّ ‏«لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ نَجِسٌ‏‏» [٥]، وقدرته لا تعتمد على الخضوع الإجباريّ أو الحتميّ بل بواسطة كلمته وحكمته الأزليّ، مُخلِّصنا يسوع.
هذا هو مجد الله الحقيقيّ، أنَّهُ وفي ظلِّ عدم وجود أيّ حدود لقوَّته وقدرته، إلَّا أنَّهُ لا يفرض الخضوع على الإنسان، بل يُحادثه بكلمته؛ هذا الإنسان الذي خُلِقَ عاقلًا لكي يكونَ حُرًّا، ولكي تُبْنَى علاقتُهُ بالله على أساسٍ حرٍّ غير مُقيَّد بقيود الحتميَّة والإجبار.
ولأنَّ مجدَ اللهِ الحقيقيّ ليسَ في قدرته على إخضاع الكلِّ إجباريًّا، بل يكمن بالحقيقةِ في حبِّهِ للبشريَّة، فقد كان مجدُ الآب الحقيقيّ هو أنْ يُرسِلَ كلمتِهِ لإنقاذ العالم وخلاصِه، وكان مجدُ الابنِ في أنَّهُ خَضَعَ بحريَّةٍ للآبِ وجازَ آلامَ الصلبِ والموتِ مِنْ أجلِ حياةِ العالَمِ [٦].

[إنَّ علامةَ الآبِ الخلاصيَّةِ في العالَمِ هي الابن؛ وعلامة الابن الخلاصيَّة في العالم هي الصليب] [٧]
وهنا، يختلف شرح أوريجين الأرثوذكسيّ للنصِّ البولسيّ المذكور أعلاه عمَّا يتبادر إلى مخيِّلتِنا حينما نقرأ النصَّ. فالله لَمْ يَسْقُط مِنْ مجدِهِ ولا خَسِرَ كرامةً ولا صارَ في مرتبةٍ أدنى حينما تجسَّدَ وصُلِبَ كما نتخيَّل، بل على العكس فإنَّهُ تمجَّد بالأكثر.
«أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ (أي ساعة الصلب). مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا... أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.» [٨]
لقد مجَّد الابن الآب حقًّا على الأرض، بأنْ أكمل العمل الذي أعطاه الآب إيًّاه، صارخًا على الصليب قبل أنْ  يُنكِّسَ رأسَهُ ويُسلِمَ الروحَ قائلًا: «قَدْ أُكْمِلَ» [٩]، وبهذا تمجَّد الآب بالحقِّ وتمجَّد الابن بالمجد الذي كان له قبل كون العالَم، ومِنْ ثمََّ شاركنا نحن في هذا المجد بنعمتِهِ: «وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي» [١٠]. ما هو هذا المجد؟ هو مجد إتمام عمل الآب وإرادته الصالحة، هذا الذي هو حمل صليب خلاص البشريَّة. الصليب الذي صار علامة المجد والنصرة، ولا مجد ولا نصرة خارجه.
[علينا أنْ نتجرَّأ في القولِ بأنَّ صلاحَ المسيح قد ظَهَرَ بشكلٍ أوضح وبشكلٍ إلهيٍّ أكثر ومطابق لصورة الآب حينما «وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ»، عمَّا إذا كان قد «حَسَبَ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ» ولَمْ يرض أنْ يكونَ خادمًا لخلاص العالم.] [١١]
ما يقولهُ أوريجينوس هنا خطيرٌ ومربكٌ للذهن الغير مُهيَّأ أرثوذكسيًّا. فألوهيَّة المسيح لَمْ تظهر في ميلادِهِ البتوليّ ولا معجزاتِهِ الشفائيَّة ولا في إقامتِهِ للأمواتِ ولا في خضوع الشياطين له بالوضوح الذي ظهرت وتجلَّت به حقيقةً على الصليب، وسطعتْ على الكلِّ في القيامة!
وهنا أود أنْ ألومَ كلَّ مَنْ يُوجِّه لأوريجينوس تهمة أنَّهُ كان يحتقر الجسد، لأنَّهُ لَمْ يكنْ ليحسب أنْ اتِّخاذ الكلمة جسدًا هنا مجدًا وإظهارًا حقيقيًّا جليًّا لألوهيَّتِهِ بل كان سيعتبره احتقارًا للكلمة. ولكن وعلى أيَّة حال، ليس هذا بموضوعنا الآن.

في النهاية، علينا أنْ نفهمَ أنْ ما نتصوَّره نحن عن المجد الإلهيّ هو محضِ صورٍ ماديَّة سطحيَّة وغير ناضجة بالمرَّة: العرش الذهبيّ لله، والتاج المُرصَّع بالأحجار الكريمة، والصولجان المُحلَّى باللآلئ البهيَّة، وتسبيحات الملائكة، وقدرته على كلِّ شيء يريده وخضوع الجميع له خوفًا منه، وقدرته على إفناء الجميع وحرق المخالفين؛ بينما الشرح الأرثوذكسيّ للمجد هو في حبِّ الله الغير محدود تجاه الإنسان، والذي دفعه لخلق الإنسان مِنْ عدم الوجود ثُمَّ دفعه للتجسُّد والموت، وهو ليسَ في أيّ حاجة أو ضرورة لفعل ذلك.
ليتَ الإكليروس المعاصر، وأقولها بكلِّ أسفٍ، يفهمون هذه الحقيقة!! يفهمون ماهيَّة المجد الحقيقيّ. فما بِتنا نراه هو مجد العالَم الساقط الواقع عليهم، ولَمْ نعد نرى مجد المسيح المصلوب مِنْ أجلِ شعبه! لا أقصد الإدانة، فاللوم يطولني أنا أيضًا، ويطولكَ ويطولكِ، ويطول كلَّ مَنْ يدَّعي أنَّهُ مسيحيّ وهو ليسَ كذلك!

«فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ:
«أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».». [١٢]  

«فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ:
«أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ.» [١٣]

في النهاية عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، أدعوكم لقراءة النصّ البولسيّ مرَّة أخرى، وتأمَّل كيف تمجَّد الله -بالحقيقة والفعل- في حياتك.

بنعمة الله، 
چورچ نسيم سامي


[١] رسالة مُعلِّمنا القدِّيس بولس الرسول إلى أهلِ فيلبِّي ٢: ٥- ١١.
[٢]  حكمة سليمان ٧: ٢٥.
[٣] راجع رسالة مُعلِّمنا القدِّيس بولس الرسول الأولى إلى أهلِ كورنثوس ١٥: ٢٧-٢٨: ‏«‏‏نَّهُ أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَلكِنْ حِينَمَا يَقُولُ : «إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ» فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ. وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.»‏
[٤]  في المبادئ ١-٢-١٠.
[٥] حكمة سليمان ٧: ٢٥.
[٦] يقول القدِّيس أثناسيوس الرسوليّ: [لأنَّ مجدَ الآبِ هوأنْ يُوجَدَ الإنسانُ الذي كان قد خُلِقَ ثمَّ هَلَكَ، وهو أنْ يَحيا الذي ماتَ، وهو أنْ يَصيرَ الإنسانُ هيكلًا لله] المقالة الأولى ضدّ الآريوسيِّين، فقرة ٤٢.
[7] Commentary on Psalms 19, 6‏.‏
[٨] بشارة الإنجيل بحسب مُعلِّمنا القدِّيس يوحنَّا ١٧: ١، ٤-٥.
[٩] بشارة الإنجيل بحسب مُعلِّمنا القدِّيس يوحنَّا ١٩: ٣٠.
[١٠] بشارة الإنجيل بحسب مُعلِّمنا القدِّيس يوحنَّا ١٧: ٢٢.
[11] Commentary on John 1, 231. Cf. Commentary on John, 32. 318- 367.
[١٢]  بشارة الإنجيل بحسب مُعلِّمنا القدِّيس متَّى ٢٠: ٢٥- ٢٨.
[١٣] بشارة الإنجيل بحسب مُعلِّمنا القدِّيس يوحنَّا ١٣: ١٢- ١٧.